القيادة في المراحل الانتقالية- هل يكفي الثقل الاقتصادي والثقافي؟

في أعقاب نهاية الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1990، مثّل صعود رفيق الحريري إلى سدة رئاسة الوزراء منعطفًا حاسمًا في جهود ترميم الدولة اللبنانية، مستفيدًا من شبكة علاقاته الدولية الواسعة، خصوصًا مع المملكة العربية السعودية وفرنسا. وذلك لأن رئيسي الوزراء السابقين، عمر كرامي ورشيد الصلح، لم يتمكنا من التغلب على التحديات الجسام التي واجهت البلاد، مما استدعى الحاجة إلى شخصية تتمتع بنفوذ اقتصادي ودولي كبير.
وقد اضطلع الحريري بدور جوهري في مسيرة إعادة إعمار لبنان، إلا أن هذه الجهود البناءة قد تعرّضت لاحقًا للتخريب والتدمير على يد نظام الأسد وحزب الله.
وفي منطقة أوروبا الشرقية، لمع نجم الكاتب المسرحي البارز فاتسلاف هافل، الذي كان أحد رموز "ربيع براغ" في عام 1968، كشخصية سياسية انتقالية بارزة بعد انهيار النظام الشيوعي. وقد تولى هافل رئاسة تشيكوسلوفاكيا في الفترة ما بين عامي 1989 و1992، ثم أصبح أول رئيس لجمهورية التشيك بعد الانفصال، وذلك من عام 1993 حتى عام 2003.
ولكن هل كل مثقف أو رجل أعمال قادر بالضرورة على أن يصبح رجل دولة ناجحًا؟
خلال الثورة السورية، تراءى في أذهان العديد من السوريين حلم مماثل، حيث طُرحت أسماء شخصيات ذات خلفيات اقتصادية وثقافية متنوعة كمرشحين محتملين لقيادة الثورة السورية.
ومع تحقيق التحرير في سوريا وسقوط النظام الغاشم عسكريًا، عادت هذه الطروحات إلى الواجهة من جديد في بعض المواقع الهامة، وذلك في ظل الحاجة الماسة إلى إدارة المرحلة القادمة بوجوه معروفة ومشهود لها بتحقيق نجاحات بارزة في مجالات تخصصها.
إلا أن السؤال المحوري الذي يفرض نفسه هنا هو: هل يمكن لأي مثقف أو رجل أعمال أن يتبوأ منصب رجل دولة بكفاءة، لا سيما في المراحل الانتقالية الحرجة؟
من الطبيعي أن تتجه الأنظار نحو شخصيات عامة حققت نجاحًا ملحوظًا في مجالات الاقتصاد أو الثقافة أو الفكر، ولكن تولي المناصب السياسية أو التنفيذية يجب أن يخضع لمعايير دقيقة ومحكمة تراعي طبيعة المنصب وظروف المرحلة الراهنة، خاصة بعد عقود طويلة من الاستبداد والتدهور المؤسسي وتدمير مقدرات البلاد.
فالمعايير اللازمة لاختيار رئيس للحكومة تختلف بشكل كبير عن تلك المطلوبة لوزير أو محافظ أو عضو في البرلمان أو حتى دبلوماسي، بل إن معايير اختيار رئيس حكومة في مرحلة انتقالية تختلف جوهريًا عن تلك المطلوبة في مرحلة ما بعد الاستقرار وتأسيس نظام سياسي تعددي.
الشرع.. قائداً للمرحلة بعيون الشعب السوري
بعد انعقاد "مؤتمر النصر والحوار الوطني" والإعلان عن تشكيل الحكومة الانتقالية، أجمع غالبية الشعب السوري على اختيار الرئيس أحمد الشرع، الذي قاد عملية التحرير بنجاح فاق كل التوقعات.
ويفترض أن يترافق هذا الإجماع الشعبي مع انفتاح القيادة الجديدة على الكفاءات الوطنية الموثوقة التي ساندت الشعب في محنته العصيبة، وذلك لتساهم بخبراتها المتراكمة في بناء الدولة الجديدة سويًا.
ويتفق العديد من السوريين على أن الرئيس الشرع، الذي ينحدر من خلفية عسكرية قوية، قادر على فرض احترامه على الفصائل المسلحة المتنوعة، والشروع في عملية بناء جيش وطني محترف، وجهاز أمني يعمل بكفاءة عالية دون اللجوء إلى القمع أو التعسف، شريطة تطبيق معايير مناسبة لعمليات البناء والدمج ضمن مدد زمنية محددة وواضحة.
أما طرح شخصيات من خارج المجال العسكري والأمني، ممن لم يشاركوا في المعارك الضارية خلال الثورة، فإنه لن يتمكن من فرض برامجه على الفصائل، بل ربما يُدخل سوريا في أتون صراعات داخلية مماثلة لتلك التي شهدتها دول أخرى في المنطقة، وتعد المنهجية الواقعية التي يتبناها الرئيس الشرع أحد الأسباب الرئيسية للقبول الذي يحظى به من القيادات العسكرية المختلفة؛ وذلك بفضل نجاحه العسكري الملموس، والبوادر الأولية للترحيب الدبلوماسي العربي والدولي.
ولكن الاختبار الأصعب الذي ينتظر الرئيس الشرع يكمن في الانتقال السلس من قيادة المعركة العسكرية إلى قيادة الدولة، وبناء نموذج حداثي يحترم الهوية الوطنية الجامعة، وذلك بدعم من فريق عمل استشاري وتنفيذي محترف ومتنوع قادر على تقديم النصح والمشورة بجرأة وصدق.
شركاء متضامنون في بناء الوطن
في المقابل، يظل للمثقفين ورجال الأعمال والصناعيين والسياسيين دور محوري لا يقل أهمية في نهضة سوريا الجديدة، وذلك من خلال تقديم رؤاهم الثاقبة وخبراتهم المتنوعة ومشاركتهم الفاعلة في المشروع الوطني.
ومن الأهمية بمكان أن تتمتع القيادة السياسية بالقدرة على الإصغاء باهتمام لهذه النخب الفكرية، وأن تحتضن أفكارهم النيرة وانتقاداتهم البناءة، بما يعزز الحريات ويثري الحوار الوطني الشامل.
إن المرحلة المقبلة هي مرحلة بناء وتشييد تتطلب تجاوز الأيديولوجيات الضيقة والنماذج السياسية التقليدية البالية التي أنهكت العالم والمنطقة بأسرها، وهي بحاجة ماسة إلى استقطاب الكفاءات الوطنية المتميزة أينما وجدت، وذلك لبناء دولة حديثة، مدنية، ذات طابع حضاري ووطني أصيل، تحتضن جميع مكوناتها المتنوعة بعيدًا عن المزايدات العقيمة، أو المخاوف التي زرعها النظام البائد الغاشم وأعداء الوطن المتربصين.
هذا لا يعني بحال من الأحوال التغاضي عن الجرائم والانتهاكات الفظيعة التي ارتُكبت، بل يَشترط التزامًا قاطعًا بتحقيق العدالة الانتقالية والمحاسبة العادلة وفقًا للقانون.
إنّ سوريا المستقبل المشرق التي نتطلع إليها، لن تُبنى إلا بسواعد جميع أبنائها المخلصين، دون إقصاء أو تهميش لأي طرف، وعلى أسس راسخة من العدالة والمساواة، والمواطنة الحقة، والكفاءة والتميز.